سورة الحجر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


قلت: رُب: حرف جر، تدل على التقليل غالباً. وفيها ثماني لغات: التخفيف، والتثقيل مع ضم الراء وفتحها بالتاء، وتدخل عليها (ما) فتكفها عن العمل، ويجوز دخولها حينئذٍ على الفعل، ويكون ماضياً، أو منزلاً منزلته في تحقيق وقوعه، وقد تدخل على الجملة الاسمية؛ كقول الشاعر:
رُبَّمَا الجَامِلُ المُؤَبَّلُ فِيهمْ *** وَعَناجِيجُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ
وجملة: {إلا ولها}: صفة لقرية، والأصل ألا يدخلها الواو، كقوله {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208]، لكن لما شابهت صورة الحال دخلت عليها؛ تأكيداً لوصفها بالموصوف.
يقول الحق جل جلاله: أيها الرسول المعظم، {تلك} الآيات التي تتلوها هي {آياتُ الكتاب} الذي أنزلناه إليك، {و} آيات {قرآنٍ} عربي {مبينٍ}؛ واضح البيان، مبيناً للرشد والصواب، فمن تمسك به وآمن بما فيه كان من المسلمين الناجين، ومن كان تنكب عنه وكفر به كان من الكافرين الهالكين، وسيندم حين لا ينفع الندم، كما قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ}: متمسكين بما فيه حتى يكونوا من الناجين. وهذا التمني قيل: يكون عند الموت، وقيل: في القيامة، وقيل: إذا خرج العصاة من النار، وهذا أرجح؛ لحديثٍ في ذلك. ومعنى التقليل فيه: أنه تدهشهم أهوال يوم القيامة، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الأوقات تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
قال تعالى: {ذرهم}: دعهم اليوم {يأكلوا ويتمتعوا} بدنياهم {ويُلهِهمُ الأملُ}: ويشغلهم توثقهم بطول الأعمار، واستقامة الأحوال، عن الاستعداد للمعاد، {فسوف يعلمون} سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاؤهم. والأمل للتهديد، والغرض: حصول الإياس من إيمانهم، والإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنَّ نصحهم بعد هذا تعب بلا فائدة. وفيه إلزام الحجة لهم. وفيه التحذير عن إيثار التنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل من الهلاك عاجلاً وآجلاً، ولذلك قال تعالى بُعد: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتابٌ معلوم} أي: أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ، {ما تسبق من أمة أجلها}؛ أي: أجَل هلاكها، {وما يستأخرون} عنه ساعة، وتذكير الضمير في {يستأخرون}؛ للحمل على المعنى، لأن الأمة واقعة على الناس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر هذا التهديد العظيم، والخطر الجسيم لمن تمتع بدنياه، وعكف على حظوظه وهواه: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}. ولله در القائل:
تَفَكَّرتُ فِي الدُّنيا وفي شَهَواتِها *** ولَذاتِها حَتَّى أَطَلْتُ التَّفَكُّرَا
وَكيْفَ يَلَذُّ العَيشُ مَنْ هُو سَالِكٌ *** سَبِيلَ المَنَايا رائِحا أوْ مُبكِّرا
فَلاَ خَيْرَ في الدُّنْيَا ولاَ في نَعِيِمهَا *** لحُرِّ مقلِّ كانَ أوْ مُكْثِرا


يقول الحق جل جلاله: {وقالوا}؛ أي: كفار قريش: {يا أيها الذين نُزِّل عليه الذكْرُ} في زعمه، أو قالوه تَهكماً، {إنك لمجنون} أي: إنك لتقول قول المجانين، حين تدعي أنه ينزل عليك الذكر، أي: القرآن. {لَوْ مَا}: هلا {تأتينا بالملائكة} ليصدقوك فيما تدعي، أو يعضدوك على الدعوى، أو للعقاب على تكذيبنا {إن كنت من الصادقين} في دعواك، قال تعالى: {ما نُنزّلُ الملائكة}؛ لعذابهم أو لغيره {إلا بالحق} من الوحي، والمصالح التي يريدها الله، لا باقتراح مقترح، أو اختبار كافر، أو: إلا تنزيلاً ملتبساً بالحق، أي: بالوجه الذي قدره في الأزل، واقتضته الحكمة الإلهية، وهو أنه لا تنزل إلا باستئصال العذاب، وقد سبق في العلم القديم أن من ذريتهم من سبقت كلمتنا له بالإيمان، أو يراد بالحق: العذاب، ويؤيده قوله: {وما كانوا إذاً منظَرين}؛ أي: ولو نزلت الملائكة لعوجلوا، وما كانوا، إذا نزلت، مُؤخرين عن العذاب ساعة.
ثم رد إنكارهم نزولَ الذكر واستهزاءَهُمْ فقال: {إنا نحن نزلنا الذَّكَر}؛ أي: القرآن، وأكده بأن وضمير الفصل، وحفظه بعد نزوله، كما قال: {وإنا له لحافظون} من التحريف، والزيادة، والنقص، بأن جعلناه معجزاً، مبايناً لكلام البشر، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري: نزل التوراة، وَوَكَلَ حفظها إلى بني إسرائيل، بما استحفظوا من كتاب الله، فحرَّفوا وبَدَّلوا، وأنزل القرآن، وأخبر أنه حافظه، فلا جرم أنه كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويقال: إنه أخبر أنه حافظ القرآن، وإنما يحفظه بقرائه، فقلوبُ القُرَّاءِ هي خزائنُ كتابه؛ وهو لا يضيع حفظة كتابه، فإن في ذلك تضييع كتابه. اهـ.
وقال ابن عطية على قوله {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75] ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم، وأن ذلك ممكن في التوراة؛ لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن؛ لأن الله تعالى ضمن حفظه. اهـ.
الإشارة: كل ما جاء في القرآن من الإنكار على الرسل على أيدي الكفرة وتنقصيهم، والاستهزاء بهم، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل في جانبه؛ كقوله: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]، وقوله: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل، فكأن الحق تعالى يقول: لو سَلِم أحد من الناس، لسلمتُ أنا وأنبيائي، الذين هم خاصة خلقي، فليكن بي وبرسلي أسوة لمن أُوذي من أوليائي. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: في تسلية رسوله عليه الصلاة والسلام {ولقد أرسلنا مِن قبْلِكَ} رسلاً {في شِيَعٍ}: فرق {الأولين} أي: القرون الماضية، جمع شيعة، وهي: الفرقة المتفقة على طريق واحد، وتتشيع لمذهب أو رجل، من شاعه إذا تبعه، أي: نبأنا رجالاً فيهم، وجعلناهم رسلاً إليهم، فكذبوهم واستهزؤوا بهم، فكانوا: {ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} كما يفعل بك هؤلاء المجرمون.
{كذلك نَسْلُكُه} أي: ندخل الاستهزاء {في قلوب المجرمين}. والسلك: إدخال الشيء كالخيط في المخيط، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل دليل على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوبهم. وإذا سلك في قلوبهم التكذيب {لا يؤمنون به} أبداً. أو: نسلكه، أي: القرآن؛ مستهزءاً به، أي: مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين؛ مُكَذَّباً غير مؤمن به، ثم هددهم على عدم الإيمان به، فقال: {وقد خلت سُنَّةُ الأولين} أي: تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء، حتى هلكوا بسبب ذلك، أو مضت سنته في الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم، فيكون وعيداً لأهل مكة.
{ولو فتحنا عليهم} أي: على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش، {باباً من السماء فظلوا فيه يعرجُون}: يصعدون إليها، ويرون عجائبها طول نهارهم، لكذبوا، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا؛ من شدة عنادهم وتشكيكهم في الحق: {إنما سُكِّرتْ}: حيرت {أبصارُنا}، فرأينا الأمر على غير حقيقته؛ من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.
ويحتمل أن يكون مشتقاً من السَكر بفتح السين، وهو السد، أي: سُدَّت أبصارنا، ومُنعنا من الرؤية الحقيقية. {بل نحن قوم مسحورون}؛ سحرنا محمد، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي: وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له، بل هو باطل خُيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. اهـ. وذلك من فرط عنادهم، وشقاوتهم. والعياذ بالله.
الإشارة: هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء، فيرجعون إلى الله، والاكتفاء بعلمه، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه: عداوة العدو حقاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدي أبو القاسم الخصاصي رضي الله عنه لبعض تلامذته: لا تشتغل قط بمن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حركه عليك، ليختبر دعواك في الصدق. وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء من آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم، وكفاهم أمرهم. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5